فصل: ذكر استيلاء محمد بن هارون على الري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر وفاة المعتضد:

في هذه السنة، في ربيع الآخر، توفي المعتضد بالله أبوالعباس أحمد بن الموفق بن المتوكل ليلة الاثنين لثمان بقين منه، وكان مولده في ذي الحجة من سنة اثنتين وأربعين ومائتين.
ولما اشتد مرضه اجتمع القواد منهم يونس الخادم، وموشكير وغيرهمأن وقالوا للوزير القاسم بن عبيد الله ليجدد البيعة للمكتفي، وقالوا: إنا لا نأمن فتنة، فقال: إن هذا المال لأمير المؤمنين ولولده من بعده، وأخاف أن أطلق فيبرأ من علته فينكر علي ذلك.
فقال: إن برئ من مرضه فنحن المحتجون، والمناظرون، وإن صار الأمر إلى ولده فلا يلومنأن ونحن نطلب الأمر له.
فأطلق المال وجدد عليه البيعة، وأحضر عبد الواحد بن الموفق وأخذ عليه البيعة فوكل به وأحضر ابن المعتز، ومضى ابن المؤيد وعبد العزيز بن المعتمد ووكل بهم.
فلما توفي أحضر يوسف بن يعقوب وأبا حازم وأبا عمر محمد بن يوسف بن يعقوب، فتولى غسله محمد بن يوسف، وصلى عليه الوزير، ودفن ليلاً في دار محمد بن طاهر، وجلس الوزير في دار الخلافة للعزاء. وجدد البيعة للمكتفي.
وكانت أم المعتضد، واسمها ضرار، قد توفيت قبل خلافته، وكانت خلافته سبع سنين وتسعة أشهر وثلاثة عشر يوماً؛ وخلف من الولد الذكور: علياً وهوالمكتفي، وجعفراً وهوالمقتدر، وهارون، ومن البنات إحدى عشرة بنتأن وقيل سبع عشرة، ولما حضرته الوفاة أنشد:
تمتع من الدنيا فإنك لا تبقى ** وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرنقا

ولا تأمن الدهر إن قد أمتنه ** فلم يبق لي حالاً ولم يرع لي حقاً

قتلت صناديد الرجال ولم أدع ** عدواً ولم أمهل على طغيه خلقا

وأخلبت دار الملك من كل نازع ** فشردتهم غرباً ومزقتهم شرقا

فلما بلغت النجم عزاً ورفعةً ** وصارت راقاب الخلق أجمع لي رقا

رماني الردى سهماً فأخمد جمرتي ** فها أنا ذا في حفرتي عاجلاً ألقي

ولم يغن عني ما جمعت ولم أجد ** لذي الملك والأحياء في حسنها رفقا

فيا ليت شعري بعد موتي ما ألقى؟ ** إلى نعم الرحمن أم ناره ألقى

.ذكر صفته وسيرته:

كان المعتضد اسمر، نحيف الجسم، معتدل الخلق، قد وخطه الشيب، وكان شهمأن شجاعأن مقدامأن وكان ذا عزم، وكان فيه شح بلغه خبر وصيف خادم ابن أبي الساج وعليه قباء اصفر، فسار من ساعته وظفر بوصيف وعاد، فدخل أنطاكية وعليه القباء، فقال بعض أهلها: الخليفة بغير سواد؛ فقال بعض أصحابه: إنه سار فيه، ولم ينزعه إلى الآن. وكان عفيفاً.
حكى القاضي إسماعيل بن إسحاق قال: دخلت على المعتضد وعلى رأسه أحداث روم صباح الوجوه، فأطلت النظر إليهم، فلما قمت أمرني بالقعود فجلست، فلما تفرق الناس قال: يا قاضي، والله ما حللت سراويلي على غير حلال قط.
وكان مهيباً عند أصحابه يتقون سطوته ويكفون عن الظلم خوفاً منه.

.ذكر خلافة المكتفي بالله:

ولما توفي المعتضد كتب الوزير إلى أبي محمد علي بن المعتضد، وهوالمكتفي بالله، يعرفه بذلك بأخذ البيعة له، وكان بالرقة، فلما وصله الخبر أخذ البيعة على من عنده من الأجناد، ووضع لهم العطاء وسار إلى بغداد، ووجه إلى النواحي من ديار ربيعة ومضر ونواحي العرب من يحفظهأن ودخل بغداد لثمان خلون من جمادى الأولى، فلما سار إلى منزله أمر بهدم المطامير التي كان أبوه اتخذها لأهل الجرائم.

.ذكر قتل عمرو بن الليث الصفار:

وفي هذا اليوم الذي دخل فيه المكتفي بغداد قتل عمروبن الليث بن الصفار، ودفن من الغد. وكان المعتضد، بعدما امتنع من الكلام، أمر صافياً الخرمي بقتل عمروابن الليث بالإيماء والإشارة، ووضع يده على رقبته وعلى عينه بأن اذبح الأعور، وكان عمروأعور، فلم يفعل ذلك صافي لعلمه بقرب وفاة المعتضد، وكره قتل عمرو، فلما وصل المكتفي بغداد سأل الوزير عنه، فقال، هوحي، فسر بذلك، وأراد الإحسان إليه لأنه كان يكثر من الهدية إليه لما كان بالري، فكره الوزير ذلك، فبعث إليه من قتله.

.ذكر استيلاء محمد بن هارون على الري:

وفي هذه السنة كاتب أهل الري محمد بن هارون الذي كان حارب محمد ابن زيد العلوي، وتولى طبرستان لإسماعيل بن أحمد، وكان محمد بن هارون قد خلع طاعة إسماعيل، فسأله أهل الري المسير إليهم ليسلموها إليه.
وكان سبب ذلك أن الوالي عليهم كان قد أساء السيرة فيهم، فسار محمد بن هارون إليهم فحاربه واليها وهوالدتمش التركي، فقتله محمد وقتل ابنين وأخا كيغلغ، وهومن قواد الخليفة، ودخل محمد بن هارون الري، واستولى عليها في رجب.

.ذكر قتل بدر:

وفيها قتل بدر غلام المعتضد؛ وكان سبب ذلك أن القاسم الوزير كان قد هم بنقل الخلافة عن ولده المعتضد بعده، فقال لبدر في ذلك في حياة المعتضد بعد أن استخلفه واستكتمه، فقال بدر: ما كنت لأصرفها عن ولد مولاي وولي نعمتي؛ فلم يمكنه مخالفة بدر، إذ كان صاحب الجيش، وحقدها على بدر، فلما مات المعتضد كان بدر بفارس، فعقد القاسم البيعة لمكتفي، وهوبالرقة.
وكان المكتفي أيضاً مباعداً لبدر في حياة أبيه، وعمل القاسم في هلاك بدر خوفاً على نفسه أن يذكر ما كان منه للمكتفي، فوجه المكتفي محمد بن كشتمر برسائل إلى القواد الذين مع بدر يأمرهم بالمسير إليه ومفارقة بدر، ففارقه جماعة منهم العباس بن عمروالغنوي، ومحمد بن إسحاق بن كنداج، وخاقان المفلحي وغيرهم، فاحسن إليهم المكتفي، وسار بدر إلى واسط، فوكل المكتفي بداره، وقبض على أصحابه وقواده وحبسهم، وأمر بمحواسم بدر من التراس والأعلام، وسير الحسين بن علي كورة في جيش إلى واسط.
وأرسل إلى بدر يعرض عليه أي النواحي شاء، فأبى ذلك، وقال: لا بد لي من المسير إلى باب مولاي؛ فوجد القاسم مساغاً للقول، وخوف المكتفي عائلته، وبلغ بدراً ما فعل بأهله وأصحابه، وأرسل من يأتيه بولده هلال سرأن فعلم الوزير بذلك، فاحتاط عليه، ودعا أبا حازم، قاضي الشرقية، وأمره بالمسير إلى بدر، وتطيب نفسه عن المكتفي، وإعطائه الأمان عنه لنفسه وولده وماله، فقال أبوحازم: أحتاج إلى سماع ذلك من أمير المؤمنين؛ فصرفه ودعا أبا عمر القاضي، وأمره بمثل ذلك فأجابه، وسار ومعه كتاب الأمان، فسار بدر عن واسط نحوبغداد، فأرسل إليه الوزير من قتله، فلما أيقن بالقتل سأل أن يمهل حتى يصلي ركعتين، فصلاهمأن ثم ضربت عنقه يوم الجمعة لست خلون من شهر رمضان، ثم أخذ رأسه وتركت جثته هنالك، فوجه عياله من أخذها سراً وجعلوها في تابوت، فلما كان وقت الحج حملوها إلى مكة، فدفنوها بهأن وكان أوصى بذلك وأعتق قبل أن يقتل كل مملوك كان له.
ورجع أبوعمر إلى داره كئيباً حزيناً لما كان منه، وقال الناس فيه أشعارأن وتكلموا فيه، ففما قيل فيه:
قل لقاضي مدينة المنصور ** بم أحللت أخذ رأس الأمير

عند إعطائه المواثيق والعه ** د وعقد الأيمان في منشور

أين أيمانك التي شهد الل ** ه على أنها يمين فجو

إن كفيك لا تفارق كفي ** ه إلى، ترى عليل السرير

يا قليل الحياء يا أكذب الام ** ة يا شاهداً شهادة زور

ليس هذا فعل القضاة ولا يح ** سن أمثاله ولاة الجسور

أي أمر ركبت في الجمعة الزه ** راء منه في خير هذي الشهور

قد مضى من قتلت في رمضا ** ن صائماً بعد سجدة التعفير

يا بني يوسف بن يعقوب أضحى ** أهل بغداد منكم في غرور

بدد الله شملكم وأراني ** ذلكم في حياة هذا الوزير

فأعدوا الجواب للحكم العد ** ل ومن بعد منكر ونكير

أنتم كلكم فدىً لأبي حا ** زم المستقيم كل الأمور

.ذكر ولاية أبي العباس إفريقية:

قد ذكرنا سنة إحدى وستين ومائتين أن إبراهيم بن أحمد، أمير إفريقية، عهد إلى ولده أبي العباس عبد الله سنة تسع وثمانين ومائتين، وتوفي فيهأن فلما توفي والده قام بالملك بعده، وكان أديبأن لبيبأن شجاعأن أحد الفرسان المذكورين، مع علمه بالحرب وتصرفها.
وكان عاقلأن عالمأن له نظر حسن في الجدل، وفي أيامه عظم أمر أبي عبد الله الشيعي فأرسل أخاه الأحول، ولم يكن أحول، وإمنا لقب بذلك لأنه كان إذا نظر دائماً ربما كسر جفنه، فلقب بالأحول، إلى قتال أبي عبد الله الشيعي، فلما بلغه حركته إليهم في جموع كثيرة والتقوا عند كموشة، فقتل بينهم خلق عظيم، وانهزم الأحوال، إلا أنه أقام في مقابلة أبي عبد الله.
وكان أبوالعباس أيام أبيه على خوف شديد منه بسوء أخلاقه، واستعمله أبوه على صقلية، ففتح فيها مواضع متعددة، وقد تقدم ذكر ذلك أيام والده، ولما ولي أبوالعباس إفريقية كتب إلى العمال كتاباً يقرأ على العامة يعدهم فيه الإحسان، والعدل، والرفق، والجهاد، ففعل ما وعد من نفسه، وأحضر من العلماء ليعينوه على أمر الرعية.
وله شعر، فمن ذلك قوله بصقلية، وقد شرب دواء:
شربت الدواء على غربة ** بعيداً من الأهل والمنزل

وكنت إذا ما شربت الدوا ** أطيب بالمسك والمندل

وقد صار شربي بحار الدما ** ونقع العجاجة والقسطل

واتصل بأبي العباس عن ولده أبي مضر زيادة الله والي صقلية له اعتكافه على اللهو، وإدمانه شرب الخمر، فعزله وولى محمد بن السرقوسي، وحبس ولده، فلما كان ليلة الأرعاء آخر شعبان من سنة تسعين ومائتين قتل أبوالعباس، قتله ثلاثة نفر من خدمه الصقالبة بوضع من ولده، وحملوا رأسه إلى ولده أبي مضر، وهوفي الحبس، فقتل الخدم وصلبهم، وكان هوالذي وضعهم، فكانت إمارته سنة اثنين وخمسين يوماً، وكان سكناه وقتله، رحمه الله، بمدينة تونس.
وكان كثير العدل، أحضر جماعة كثيرة عنده ليعينوه على العدل، ويعرفوه من أحوال الناس ما يفعل فيه على سبيل الإنصاف، وأمر الحاكم في بلده أن يقضي عليه، وعلى جميع أهله، وخواص أصحابه، ففعل ذلك، ولما قتل ولي ابنه أبومضر، وكان من أمره ما نذكره سنة ست وتسعين ومائتين.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، منتصف رمضان، قتل عبد الواحد بن الموفق، وكانت والدته إذا سألت عنه قيل لها إنه في دار المكتفي، فلما مات المكتفي أيست منه، فأقامت عليه مأتماً.
وفيها كانت وقعة بين أصحاب إسماعيل بن أحمد وبين ابن جستان الديلمي بطبرستان، فانهزم ابن جستان.
وفيها لحق إسحاق الفرغاني، وهومن أصحاب بدر، بالبادية، واظهر الخلاف على الخليفة المكتفي، فحاربه أبوالأغر، فهزمه إسحاق، وقتل من أصحابه جماعة.
وفيها سير خاقان المفلحي إلى الري في جيش كثيف ليتولاها.
وفيها صلى الناس العصر بحمص وبغداد في الصيف، ثم هب هواء من ناحية الشمال، فبرد الوقت، واشتد البرد حتى احتاج الناس إلى النار ولبس الجباب، وجعل البرد يزداد حتى جمد الماء.
وفيها كانت وقعة بين إسماعيل بن أحمد وبين محمد بن هارون بالري، فانهزم محمد، ولحق بالديلم مستجيراً بهم، ودخل إسماعيل الري.
وفيها زادت دجلة قدر خمسة عشر ذراعاً.
وفيها خلع المكتفي على هلال بن بدر وغيره من أصحاب أبيه في جمادى الأولى.
وفيها هبت ريح عاصف بالبصرة، فقلعت كثيراً من نخلهأن وخسف بموضع منها هلك فيه ستة آلاف نفس، وزلزلت بغداد، في رجب، عدة مرات، فتضرع أهلها في الجامع فكشف عنهم.
وفيها مات أبوحمزة بن محمد بن إبراهيم الصوفي، وهومن أقران سري السقطي.

.حوادث سنة تسعين ومائتين:

.ذكر أخبار القرامطة:

في هذه السنة، في ربيع الآخر، سير طغج بن جف جيشاً من دمشق إلى القرمطي، عليهم غلام له اسمه بشير، فهزمهم القرمطي وقتل بشيراً.
وفيها حصر القرمطي دمشق، وضيق على أهلهأن وقتل أصحاب طغج، ولم يبق منه إلا القليل، واشرف أهلها على الهلكة، فاجتمع جماعة من أهل بغداد، وانهوا ذلك إلى الخليفة فوعدهم النجدة، وأمد المصريون أهل دمشق ببدر وغيره من القواد، فقاتلوا الشيخ مقدم القرامطة، فقتل على باب دمشق، رماه بعض المغاربة بمزراق، وزرقه نفاط بالنار فاحترق، وقتل منهم خلق كثير.
وكان هذا القرمطي يزعم أنه إذا أشار بيده إلى جهة من التي فيها محاربوه انهزموا؛ ولما قتل يحيى المعروف بالشيخ، وقتل أصحابه، اجتمع من بقي منهم على أخيه الحسين، وسمى نفسه أحمد، وكناه أبا العباس، ودعا الناس فأجابه أكثر أهل البوادي وغيرهم، فاشتدت شوكته، وأظهر شامة في وجه، وزعم أنها آيته، فسار إلى دمشق، فصالحه أهلها على خراج دفعوه إليه وانصرف عنهم.
ثم سار إلى أطراف حمص، فغلب عليهأن وخطب له على منابرها، وتسمي المهدي أمير المؤمنين، وأتاه ابن عمه عيسى بن المهدي، المسمى عبد الله بن أحمد بن محمد بن إسماعيل، فلقبه المدثر، وعهد إليه، وزعم أنه المدثر الذي في القرآن، ولقب غلاماً من أهله المطوق، وقلده قتل أسرى المسلمين.
ولما أطاعه أهل حمص، وفتحوا له بابها خوفاً منه، سار إلى حماه، ومعرة النعمان، وغيرهمأن فقتل أهلهأن وقتل النساء والصبيان، ثم سار إلى بعلبك فقتل عامة أهلهأن ولم يبق منهم إلا اليسير، ثم سار إلى سلمية فمنعه أهلهأن ثم صالحهم وأعطاهم الأمان، ففتحوا له بابهأن فبدأ بمن فيها من بني هاشم، وكانوا جماعة، فقتلهم أجمعين، ثم قتل البهائم، والصبيان بالمكاتب ثم خرج منها وليس بها عين تطرف.
وسار فيها حولها من القرى يسبي، ويقتل، ويخيف السبيل، فذكر عن متطبب بباب المحول يدعى أبا الحسين قال: جاءتني امرأة بعدما أدخل القرمطي صاحب الشامة بغداد، وقالت: أريد أن تعالج جرحاً في كتفي؛ فقلت: ها هنا امرأة تعالج النساء، فانتظرتهأن فقعدت وهي باكية مكروبة، فسألتها عن قصتها قالت: كان لي ولد طالت غيبته عني، فخرجت أطوف عليه البلاد فلم أره، فخرجت من الرقة في طلبه، فوقعت في عسكر القرمطي أطلبه، فرأيته، فشكوت إليه حالي وحال أخواته، فقال: دعيني من هذأن أخبريني ما دينك؟ فقلت: أما تعرف ما ديني؟ فقال: ما كنا فيه باطل، والدين ما نحن فيه اليوم؛ فعجبت من ذلك، وخرج وتركني، ووجه بخبز ولحم، فلم أمسه حتى عاد فأصلحه.
وأتاه رجل من أصحابه فسأله عني هل أحسن من أمر النساء شيئأن فقلت: نعم، فأدخلني دارأن فإذا امرأة تطلق، فقعدت بين يديهأن وجعلت أكلمها ولا تكلمني، حتى ولدت غلامأن فأصلحت من شأنه، وتلطفت بها حتى كلمتني، فسألتها عن حالهأن فقالت: أنا امرأة هاشمية، أخذنا هؤلاء أقوام، فذبحوا أبي وأهلي جميعأن وأخذني صاحبهم، فأقمت عنده خمسة أيام، ثم أمر بقتلي، فطلبني منه أربعة أنفس من قواده، فوهبني لهم، وكنت معهم، فوالله ما ادري ممن هذا الولد منهم.
قالت: فجاء رجل فقالت لي: هنيه، فهنيته، فأعطاني سبيكة فضة، وجاء آخر وآخر، أهني كل واحد منهم، ويعطيني سبيكة فضة، ثم جاء الرابع ومعه جماعة، فهنيته، فأعطاني ألف درهم، وبتنأن فلما أصبحنا قلت للمرأة: قد وجب حقي عليك فالله الله خلصني! قالت: ممن أخلصك؟ فأخبرتها خبر ابني، فقالت: عليك بالرجل الذي جاء آخر القوم، فأقمت يومي، فلما أمسيت وجاء الرجل قمت له، وقبلت يده ورجله، ووعدته أنني أعود بعد أن أوصل ما معي إلى بناتي؛ فدعا قوماً من غلمانه وأمرهم بحملي إلى مكن ذكره، وقال: اتركوها فيه وارجعوا؛ فساروا بين عشرة فراسخ، فلحقنا ابني، فضربني بالسيف فجرحني، ومنعه القوم، وساروا بي إلى المكان الذي سماه لهم صاحبهم، وتركوني وجئت إلى هاهنا.
قالت: ولما قدم الأمير بالقرامطة وبالأساري رأيت ابني فيهم على جمل عليه برنس، وهويبكي، فقلت: لا خفف الله عنك ولا خلصك! ثم إن كتب أهل الشام ومصر وصلت إلى المكتفي يشكون ما يلقون من القرمطي من القتل، والسبي، وتخريب البلاد، فأمر الجند بالتأهب، وخرج من بغداد ف برمضان، وسار إلى الشام وجعل طريقه على الموصل، وقدم بين يديه أبا الأغر في عشرة آلاف رجل، فنزل قريباً من حلب، فكبسهم القرمطي، صاحب الشامة، فقتل منهم خلقاً كثيرأن وسلم أبوالأغر، فدخل حلب في ألف رجل، وكانت هذه الوقعة في رمضان، وسار القرمطي إلى باب حلب، فحاربه أبوالأغر بمن بقي معه، وأهل البلد، فرجع عنهم.
وسار المكتفي حتى نزل الرقة، وسير الجيوش إليه، وجعل أمرهم إلى محمد بن سليمان الكاتب.
وفيهأن في شوال تحارب القرمطي صاحب الشامة وبدر مولى ابن طولون، فانهزم القرمطي وقتل من أصحابه خلق كثير، ومضى من سلم منهم نحوالبادرية، فوجه المكتفي في أثرهم الحسين بن حمدان وغيره من القواد.
وفيها كبس ابن بانوا أمير البحرين حصناً للقرامطة، فظفر بمن فيه، وواقع قرابة أبي سعيد الجنابي، فهزمه ابن بانوأن وكان مقام هذا القرمطي بالقطيف، وهوولي عهد أبي سعيد، ثم إنه وجد بعدما انهزم أصحابه قتيلاً فاخذ رأسه وسار ابن بانوا إلى القطيف فافتتحها.

.ذكر أسر محمد بن هارون:

وفيها اخذ محمد بن هارون أسيراً؛ وكان سبب ذلك أن المكتفي أنفذ عهداً إلى إسماعيل بن أحمد الساماني بولاية الري، فسار إليهأن وبها محمد بن هارون، فسار عنها إلى محمد إلى قزوين وزنجاز، ثم عاد إلى طبرستان، فاستعمل إسماعيل ابن احمد على جرجان بارس الكبير، وألزمه بإحضار محمد بن هارون قسرأن أوصلحأن وكاتبه بارس وضمن له إصلاح حاله مع الأمير إسماعيل، فقبل محمد قوله، وانصرف عن جستان الديلمي، وقصد بخارى، فلما بلغ مروقيد بهأن وذلك في شعبان سنة تسعين ومائتين، ثم حمل إلى بخارى فأدخلها على جمل وحبس بها فمات بعد شهرين محبوساً.
وكان ابتداء أمره أنه كان خياطأن ثم جمع جمعاً من الرعاع وأهل الفساد، فقطع الطريق بمفازة سرخس مدة، ثم استأمن إلى رافع بن هرثمة، وبقي معه إلى أن انهزم عمروالصفار، فاستأمن إلى إسماعيل بن أحمد الساماني، صاحب ما وراء النهر، بعد قتل رافع، فسيره إسماعيل إلى قتال محمد بن زيد، على ما تقدم ذكره، وقد ذكره الخوافي في شعره فقال:
كان ابن هارون خياطاً له إبر ** وراية سامها عشراً بقيراط

فانسل في الأرض يبغي الملك في عصب ** زط ونوب وأكراد وأنباط

أنى ينال الثريا كف ملتزق ** بالترب عن ذروة العلياء هباط

صبراً أميرك إسماعيل منتقم ** منه ومن كل غدار وخياط

رأيت عيراً سما جهلاً على أسد ** يا عين ويحك ما أشقاك من شاطي

.ذكر عدة حوادث:

وفيهأن في ربيع الآخر، خلع على أبي العشائر أحمد بن نصر وولي طرسوس، وعزل عنها مظفر بن حاج لشكوى أهل الثغور منه.
وفيها قوطع طاهر بن محمد بن عمروبن الليث على مال يحمله عن بلاد فارس، وعقد له المكتفي عليها.
وفيهأن في جمادى الأولى، هرب القائد أبوسعيد الخوارزمي الذي استأمن إلى الخليفة، وأخذ نحوطريق الموصل، فكتب إلى عبد الله المعروف بغلام نون بتكريت، وهويتولى تلك النواحي، فعارضه عبد الله، واجتمع به، فخدعه أبوسعيد وقتله، وسار نحوشهرزور، واجتمع هووابن الربيع الكردي على عصيان الخليفة.
وفيها أراد المكتفي البناء بسامرأن وخرج إليها ومعه الصناع، فقدروا له ما يحتاج، وكان مالاً جليلأن وطولوا له مدة الفراغ، فعظم الوزير ذلك عليه، وصرفه إلى بغداد.
وحج بالناس هذه السنة الفضل بن عبد الملك بن عبد الواحد ين عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس.
وفيها توفي محمد بن علي بن علوية بن عبد الله الفقيه الشافعي الجرجاني، وكان قد تفقه على المزني صاحب الشافعي؛ وتوفي عبد الله بن أحمد بن حنبل في جمادى الآخرة، وكان مولده سنة ثلاث عشرة ومائتين.

.حوادث سنة إحدى وتسعين ومائيتن:

.ذكر أخبار القرامطة وقتل صاحب الشامة:

قد ذكرنا مسير المكتفي إلى الرقة، وإرساله الجيوش إلى صاحب الشامة، وتولية حرب صاحب الشامة محمد بن سليمان الكاتب، فلما كانت هذه السنة أمر محمد بن سليمان بمناهضة صاحب الشامة، فسار إليه في عساكر الخليفة، حتى لقوه وأصحابه بمكان بينهم وبين حماة اثنا عشر ميلاً لست خلون من المحرم، فقدم القرمطي أصحابه إليهم، وبقي في جماعة من أصحابه، معه مال كان جمعه، وسواد عسكره والتحمت الحرب بين أصحاب الخليفة والقرامطة، واشتدت، وانهزمت القرامطة وقتلوا كل قتلة وأسر من رجالهم بشر كثير، وتفرق الباقون في البوادي، وتبعهم أصحاب الخليفة.
فلما رأى صاحب الشامة ما نزل بأصحابه حمل أخاً له يكنى أبا الفضل مالأن وأمره أن يلحق بالبوادي إلى أن يظهر بمكان فيسير إليه، وركب هووابن عمه المسمى بالمدثر، والمطوق صاحبه، وغلام له رومي، واخذ دليلاً وسار يريد الكوفة عرضاً في البرية، فانتهى إلى الدالية من أعمال الفرات وقد نفد ما معهم من الزاد والعلف، فوجه بعض أصحابه إلى الدالية المعروفة بابن طوق ليشتري لهم ما يحتاجون إليه، فأنكروا رأيه، فسألوه عن حاله فكتمه، فرفعوه إلى متولي تلك الناحية خليفة أحمد بن محمد بن كشمرد، فسأله عن خبره، فأعلمه أن صاحب الشامة خلف رابية هناك مع ثلاثة نفر، فمضى إليهم وأخذهم، وأحضرهم عند ابن كشمرد، فوجه بهم إلى المكتفي بالرقة، ورجعت الجيوش من الطلب بعد أن قتلوا وأسروأن وكان أكثر الأنس أثراً في الحرب الحسين بن حمدان، وكتب محمد بن سليمان يثني عليه وعلى بني شيبان، فإنهم اصطلحوا الحرب، وهزموا القرامطة، واكثروا القتل فيهم والأسر، حتى لم ينج منهم إلا قليل.
وفي يوم الاثنين لأربع بقين من المحرم أدخل صاحب الشامة الرقة ظاهراً على فالج وهوالجمل ذوالسنامين وبين يديه المدثر والمطوق؛ وسار المكتفي إلى بغداد ومعه صاحب الشامة وأصحابه، وخلف العساكر مع محمد بن سليمان، وأدخل القرمطي بغداد على فيل، وأصحابه على الجمل، ثم أمر المكتفي بحبسهم إلى أن يقدم محمد بن سليمان، فقدم بغداد، وقد استقصى في طلب القرامطة، فظفر بجماعة من أعيانهم ورؤوسهم، فأمر المكتفي بقطع أيديهم وأرجلهم، وضرب أعناقهم بعد ذلك، واخرجوا من الحبس، وفعل بهم ذلك، وضرب صاحب الشامة مائتي سوط، وقطعت يداه، وكوي، فغشي عليه، وأخذوا خشباً وجعلوا فيه نارأن ووضعوه على خواصره، فجعل يفتح عينه ويغمضهأن فلما خافوا موته ضربوا عنقه، ورفعوا رأسه على خشبة، فكبر الناس لذلك، ونصب على الجسر.
وفيها قدم رجل من بني العليص من وجوه القرامط، يسمى إسماعيل ابن النعمان، وكان نجا في جماعة لم ينج من رؤسائهم غيره، فكاتبه المكتفي وبذل له الأمان، فحضر في الأمان هوونيف ومائة وستون نفسأن فأمنوا واحسن إليهم ووصلوا بمال، وصاروا إلى رحبة مالك بن طوق مع القاسم بن سيمأن وهي من عمله، فأقاموا معه مدة، ثم أرادوا الغدر بالقاسم، وعزموا على أن يثبوا بالرحبة يوم الفطر عند اشتغال الناس بالصلاة، وكان قد صار معهم جماعة كبيرة، فعلم بذلك، فقتلهم، فارتدع من كان بقي من موالي بني العيص، وذلوأن وألزموا السماوة، حتى جاءهم كتاب من الخبيث زكرويه يعلمهم أنه مما أوحي إليه أن صاحب الشامة وأخاه المعروف بالشيخ يقتلان، وأن إمامه الذي هوحي يظهر بعدهما ويظفر.